Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

السبت، 21 ديسمبر 2013

محاضرات في علم الاجرام

أهـــداف المحاضرة:إعطاء الطالب نبذة تاريخية عن علم الإجرام وتعريفه بالمبادئ الولية لهذا العلم وهو ما يشمل :
1- 
تعريف علم الإجرام.
2- 
موضوع علم الإجرام:
أ‌- مدلول الجريمة فى الدراسات الإجرامية.
ب‌- مفهوم المجرم فى الدراسات الإجرامية.
وعقب ذلك نستكمل ما يتعلق بالمبادئ الأولية لعمل الإجرام والتى ينبغى على الطالب الإلمام بها وهى :
1- 
فروع علم الإجرام.
2- 
أهمية دراسات علم الإجرام.
3- 
علاقة علم الإجرام بالعلوم الجنائية الأخرى.
1-:
• 
عرفت البشرية الجريمة منذ أقدم عصورها وتحولت الجريمة إلى ظاهرة اجتماعية شاذة في حياة التجمعات البشرية منذ القدم، وأصبحت الجريمة تمثل مشكلة على مر الأزمنة وباختلاف المجتمعات الإنسانية. وظهرت العديد من الآراء في محاولة لتفسير هذه الظاهرة لبحث دوافعها ولمحاولة السيطرة عليها.
• 
واتخذت هذه الآراء في البداية طابعاً غير علمي في تفسير الظاهرة الإجرامية؛ حيث كان الفلاسفة يرجعون ارتكاب الجريمة إلى أن الأرواح الشريرة تتقمص جسد المجرم وتدفعه لإغضاب الآلهة وارتكاب جريمته، أو يرجعونها إلى لعنة الآلهة وغضبها التي تنزل بالمجرم فتؤدي به إلى ارتكاب الجريمة، ولذلك كانوا يرون أن الوسيلة الوحيدة لمعالجة المجرم هي في تعذيبه حتى يتم طرد هذه الأرواح الشريرة من جسده أو يتم إرضاء الآلهة. 
• 
وفي تطور لاحق وتحت تأثير الأفكار المسيحية كان ينظر إلى الجريمة على أنها خطيئة دينية؛ فالمجرم قد خالف التعاليم الدينية واتبع الشيطان وتوافرت لديه إرادة متجهة إلى الشر.
• 
وهذه المحاولات أو الآراء التي قيل بها لتفسير ارتكاب الجريمة لا تتسم بالطابع العلمي وبالتالي لا يمكن القول بأن هذه المحاولات قد عرفت علم الإجرام بالمفهوم العلمي الحديث. وظهرت بعد ذلك وفي القرن الثامن عشر الإرهاصات الأولى لمحاولة إيجاد تفسير علمي للجريمة، وكانت هذه المحاولات تركز فقط على المجرم دون الظاهرة الإجرامية، وانصبت هذه الدراسات على الربط بين الجريمة وبين وجود عيوب خلقية ظاهرة في الجمجمة والوجه وكذلك بينها وبين وجود خلل عقلي أصاب المجرم فدفعه إلى ارتكابها.
• 
ويمكن القول بأن دراسة الأسباب المؤدية إلى ارتكاب الجريمة لم تأخذ الطابع العلمي إلا في بدايات القرن التاسع عشر بفضل جهود المدرسة الفرنسية – البلجيكية التي تزعمها العالمان الفرنسي "جيري" والبلجيكي "كيتيليه"؛ حيث اصدر جيري مؤلفين، الأول في عام 1833 حلل فيه إحصاءات الجرائم في فرنسا ومركزاً فيه على أهمية العوامل الفردية كالجنس والسن والعوامل الاجتماعية كالحالة الثقافية والاقتصادية والأحوال المناخية، والثاني أصدره في عام 1864 تعرض فيه للعلاقة بين الفقر والجهل من ناحية والإجرام من ناحية أخرى. أما العالم البلجيكي كيتيليه فقد أصدر مؤلفه في عام 1935 حول الطبيعة الاجتماعية وترجيح دور العوامل الاجتماعية في ارتكاب الجريمة وذلك من خلال دراسة الإحصاءات حول ظاهرة الإجرام في عدة مناطق.
• 
وقد كان لأفكار هذه المدرسة الفرنسية – البلجيكية الفضل في إلقاء الضوء على أهمية العوامل الاجتماعية في نطاق دراسة الظاهرة الإجرامية إلى جانب العوامل الفردية.
• 
وقد كان لظهور المدرسة الوضعية الإيطالية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أثراً بالغ الأهمية في تقدم الدراسات المتعلقة بعلم الإجرام وفي إعطاء هذه الدراسات بعداً منهجياً جديداً من خلال استخدام رائدها لومبروزو المنهج التجريبي في دراسة الشخصية الإجرامية، وقد ذهب بعض الفقه إلى القول بأن الأبحاث التي قام بها لومبروزو تمثل بداية الدراسة العلمية للظاهرة الإجرامية بالمعنى الدقيق. وقد تزعم هذه المدرسة ثلاثة من مشاهيرها وهم لومبروزو وجاروفالو وفيري.
• 
وكان من نتيجة الأبحاث التي قام بها لومبروزو أن نشر كتاب في عام 1876 بعنوان "الإنسان المجرم"، وذكر أن هذا الإنسان المجرم يتميز بخصائص تكوينية جسدية تختلف عن تلك التي تلاحظ لدى غير المجرمين، وأرجع ذلك إلى أن المجرم يرتد بالشبه إلى الإنسان البدائي الذي اتخذ منه نموذجاً أو نمطاً للإنسان المجرم. وقد خلص لومبروزو كذلك إلى أن الإنسان المجرم مصاب بخلل في سير أجهزة جسمه الداخلية وإلى أنه يعاني من اضطرابات نفسية وعقلية ترتد به إلى الإنسان البدائي.
• 
ونتيجة لما تعرضت له نظرية لومبروزو من انتقادات، خاصة فيما يتعلق بفكرة الإنسان المجرم وفيما يتعلق بإهمال دور العوامل الاجتماعية في ارتكاب الجريمة، فقد حاول كل من جاروفالو وفيري تطوير أفكار المدرسة الوضعية الإيطالية وذلك لإنقاذها من التطرف الذي اتسمت به هذه النظرية، وقد أدى ذلك إلى تطور الدراسات المتعلقة بعلم الإجرام. فذهب جاروفالو في مؤلفه الذي أصدره عام 1885 إلى أن الجريمة ترتكب نتيجة خلل عضوي ونفسي لدى المجرم، ولكنه أضاف إلى ذلك أن العوامل الخارجية المحيطة بالفرد تلعب دوراً في ذلك وإن اعتبر جاروفالو هذا الدور ضئيلاً وهامشياً.
أما فيري فقد اعتبر الجريمة نتاجاً لعدة عوامل وهي:
• 
عوامل داخلية مثل السن والجنس والتكوين العقلي والبدني للمجرم، وعوامل اجتماعية كالوسط العائلي والحرفة والظروف الاقتصادية من فقر وبطالة، وعوامل بيئية طبيعية مثل المناخ. وقد أعطى فيري للعوامل الاجتماعية أهمية كبيرة. وقد ضمن فيري أفكاره هذه مؤلفه الذي أصدره عام 1893 عن "علم الاجتماع الجنائي".
• 
وفي المرحلة التالية لظهور المدرسة الوضعية، اهتمت الدراسات الإجرامية بعلم الاجتماع الجنائي اهتماماً كبيراً؛ حيث تركزت الدراسات حول دور البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الفرد في دفعه لارتكاب الجريمة.
• 
ولا شك أن تقدم الأبحاث الخاصة بعلم الإجرام كان مرتبطاً بتقدم العديد من العلوم الأخر التي تمد الدراسات في علم الإجرام بالعديد من البحوث والمادة العلمية اللازمة لمعرفة شخصية المجرم وتكوينه وتأثره بالبيئة المحيطة به، ومن هذه العلوم علم الطب وعلم النفس وعلم الاجتماع، وكان نتيجة تقدم هذه العلوم أن تقدمت البحوث الإجرامية ونشأت علوم متفرعة عن علم الإجرام مثل علم البيولوجيا الجنائية، ثم علم النفس الجنائي وعلم الاجتماع الجنائي.
(1) 
تعريف علم الإجرام:
• 
أثار وضع تعريف دقيق لعلم الإجرام صعوبات كبيرة نظراً لحداثة هذا العلم، واتسمت التعريفات المتعددة التي حاول البعض وضعها لهذا العلم بالعمومية وعدم التحديد.
• 
فقيل بأن علم الإجرام هو علم الجريمة أو علم ظاهرة الإجرام أو هو علم العلم الذي يهتم بدراسة الظاهرة الإجرامية أو هو العلم الذي يدرس أسباب الجريمة، سواء تعلقت هذه الأسباب بشخص المجرم أم بالبيئة المحيطة به.
• 
وقد وسع البعض من مفهوم علم الإجرام، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث اعتبر العالم الأمريكي سذرلاند أن علم الإجرام لا يشمل فقط دراسة أسباب الجريمة وإنما أيضاً علم العقاب وعلم الاجتماع القانوني باعتبار أن الجريمة تشكل الجانب الاجتماعي لقانون العقوبات.
• 
ويلاحظ على هذه التعريفات كما سبق أن ذكرنا أنها تتسم بالعمومية وعدم التحديد أو أنها تنطوي على توسيع واضح لمضمون علم الإجرام وتخلط بينه وبين علوم أخرى. ولذلك فإن الفقه السائد استقر على تعريف علم الإجرام بأنه "هو ذلك الفرع من العلوم الجنائية الذي يدرس الجريمة كظاهرة فردية واجتماعية دراسة علمية لمعرفة العوامل المؤدية إليها بغية مكافحتها والحد من تأثيرها".
• 
وهذا العلم يحتوي على علوم فرعية أخرى تتخصص في البحث عن أسباب الجريمة، كما يستعين ببعض العلوم الحديثة مثل علم الطب وعلم النفس وعلم الاجتماع كما سبق الإشارة لذلك.
(2) 
موضوع علم الإجرام: 
• 
من التعريف الذي بيناه لعلم الإجرام يتبين أن هذا العلم يتناول بالدراسة كل من الجريمة والمجرم والعوامل الإجرامية. ونظراً لأننا سوف نخصص باباً مستقلاً لدراسة العوامل الإجرامية، فإننا سوف نقتصر في هذا المبحث على بيان مفهوم الجريمة والمجرم في أبحاث علم الإجرام.
أ- مدلول الجريمة في الدراسات الإجرامية
• 
يميز الفقه بين مدلولين للجريمة: الأول هو المدلول القانوني أو الشكلي للجريمة والثاني هو المدلول الاجتماعي لها.
– 
المدلول القانوني أو الشكلي للجريمة
• 
وفقاً لهذا المدلول تعرف الجريمة بأنها محل فعل أو امتناع يقع بالمخالفة لأحكام قانون العقوبات أو القوانين المكملة له. ومؤدى هذا التعريف أنه يخرج من مدلول الجريمة الأفعال ذات الخطورة الاجتماعية التي لا تتوافر بالنسبة لها الشروط الموضوعية والشكلية اللازمة لاعتبارها جرائم من وجهة نظر قانون العقوبات.
• 
ويؤخذ على المدلول الشكلي أو القانوني للجريمة أنه يتجاهل كون الجريمة واقعة مادية ذات آثار اجتماعية قبل أن تكون واقعة قانونية. ثم إن هذا المدلول القانوني يضيق من أبحاث على الإجرام وذلك باستبعاده الأفعال ذات الخطورة الاجتماعية غير المنصوص عليها في قانون العقوبات. ويضاف إلى ذلك أن هذا المدلول القانوني للجريمة يجعل منها فكرة نسبية تختلف باختلاف الزمان والمكان، ومؤدى ذلك إنكار وصف العلم عن علم الإجرام لأنه لن يقـدم نتائـج مؤكدة طالما أن موضـوعه لا يتميز بالثبات والتجانس.

المدلول الاجتماعي للجريمة
• 
ونظراً لهذه الصعوبات التي ارتبطت بالتعريف القانوني للجريمة فقد ذهب جانب من الفقه إلى تعريف الجريمة من وجهة اجتماعية. فعرفوها بأنها كل سلوك مخالف للقيم والمبادئ الأخلاقية السائدة في المجتمع ولو لم يكن قد ورد ضمن نصوص قانون العقوبات. وانطلاقاً من هذا المدلول استبدل جاروفالو بفكرة الجريمة القانونية فكرة "الجريمة الطبيعية" وهي تعني كل انتهاك لمشاعر الشفقة والرحمة والأمانة السائدة في المجتمع ومن أمثلة الجرائم الطبيعية جرائم القتل والسرقة، وتتميز الجريمة الطبيعية بالعمومية والثبات حيث أن مضمونها لا يتغير باختلاف الزمان والمكان.
• 
والجريمة الطبيعية تقابل ما يطلق عليه "الجريمة المصطنعة أو الجريمة الاتفاقية" وهي التي تقع اعتداء على مشاعر ومصالح اجتماعية متغيرة باختلاف الزمان والمكان ويلجأ إليها المشرع من أجل حماية مصالح اجتماعية معينة ومن أمثلتها الجرائم الاقتصادية.
• 
ويؤخذ على هذا المدلول الاجتماعي للجريمة أنه يتعارض مع مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، ذلك المبدأ الذي يمثل ضمانة هامة لحماية الحريات الفردية. بالإضافة إلى ذلك فإن المشرع الجنائي لا يجرم سوكاً ما لأنه مخالف للأخلاق وإنما لأنه يمثل اعتداء على مصلحة جوهرية للمجتمع، وهذا لا يمنع من أن الصلة وثيقة بين القانون الجنائي والأخلاق وإن كان للأخيرة نطاق أوسع من الأول.
• 
ومن ناحية أخرى فإن فكرة الجريمة الطبيعية التي قال بها جاروفالو فكرة يعتبرها البعض غير واقعية، لأن طبيعة المجتمعات تختلف من مكان لآخر، ويختلف المجتمع الواحد من زمان لآخر، وبناء عليه فمن المتصور أن ما يعد جريمة في مجتمع ما أو في زمان ما لا يعد كذلك في مجتمع آخر أو في زمان آخر.
ترجيح المدلول القانوني للجريمة:
• 
رغم الانتقادات التي سبق بيانها والتي وجهت للمدلول القانوني للجريمة، إلا أن الغالبية من الفقه تؤيد الأخذ بالمدلول القانوني للجريمة فيما يتعلق بالدراسات الإجرامية. ويتميز الأخذ بهذا المدلول في أنه يعطي لمفهوم الجريمة قدراً من الثبات والتحديد.
• 
علاوة على أنه لا يخشى على صفة العمومية من الأخذ بالمدلول القانوني للجريمة لأن معظم الأنظمة القانونية تتفق على أغلب المظاهر والسلوكيات التي تشكل اعتداء على مصالح جوهرية للمجتمع.
• 
وقد يؤدي هذا الثبات وهذه العمومية لمفهوم الجريمة إلى الحفاظ على صفة العمومية للدراسات الإجرامية، والثبات للنتائج المستخلصة منها فترة طويلة من الزمن.
• 
ويرى هذا الاتجاه أنه ليس هناك ما يمنع من أن تمتد أبحاث علم الإجرام إلى الأفعال التي تكشف عن خطورة اجتماعية رغم عدم خضوعها لنصوص التجريم طالما ردت هذه الأفعال أو المظاهر الاجتماعية عن تكوين شخص لدى مرتكبيها ينذر بارتكابهم فيما بعد جريمة بالمعنى القانوني. وفي هذا ما يؤدي إلى إثراء الأبحاث الإجرامية ويساعد في وضع أنسب الوسائل للوقاية من الجريمة ومكافحتها.
ب- مفهوم المجرم في الدراسات الإجرامية:
• 
تهتم أبحاث علم الإجرام بدراسة المجرم باعتباره موضوعاً لها وذلك حتى تتعرف على مختلف جوانب شخصيته وتكوينه البدني والنفسي وحالته النفسية والعقلية وما يحيط به من ظروف اجتماعية حتى يمكن في النهاية تحديد العوامل التي أدت به إلى ارتكاب الجريمة والوقوف على ما قد يكون ملائماً لمقاومتها ومكافحتها. إذا كان ذلك كذلك فإن تحديد مفهوم المجرم في نطاق الدراسات الإجرامية ليس بالأمر اليسير، فلم يحدد القانون متى تبدأ الحالة التي يوصف فيها الشخص بأنه مجرم كما أنه لا يحدد نهايتها، وفي نفس الوقت فإن اعتبار الشخص مجرماً من عدمه تحكمه اعتبارات ومعتقدات اجتماعـية راسخة وأفكار مسبقة، كل ذلك يعطي مدلولاً نسبياً لمفهوم المجرم.
صعوبة تحديد مفهوم المجرم
• 
يبين مما سبق أن تحديد مفهوم المجرم يكتفه بعض الصعوبات وذلك على النحو التالي.
• 
فمن ناحية، يعرف الفقه التقليدي المجرم بأنه ذلك الشخص الذي يرتكب جريمة مما نص عليه في قانون العقوبات. وهذا يعني أن الشخص يجب أن يثبت ارتكابه للجريمة من خلال محاكمته قانوناً. ويتميز هذا التعريف بأنه يسهل من خلاله التعرف على المجرم.
• 
ومع ذلك فقد وجه لهذا التعريف عدة انتقادات. من ناحية، يعرف التشريع الحديث عدداً هائلاً من النصوص الجنائية التي لا يعرف بوجودها الكثيرون. ومن هذه النصوص ما يهدف إلى تنظيم إداري لبعض أوجه الحياة في المجتمع، ومخالفة هذه القواعد لا تسعف في إضفاء صفة المجرم على من يخالفها. ومن ذلك مخالفات المرور والبناء وغير ذلك. وفي مقابل ذلك يفلت البعض من الوقوع تحت قبضة القانون رغم مخالفتهم له وذلك لما يتمتعون به من مهارة شخصية، فليس من الملائم استبعاد هؤلاء من دائرة الدراسات الإجرامية نظراً لما يتمتعون به من عقلية إجرامية واضحة.
• 
وقد أدت هذه الانتقادات إلى نشأة اتجاه حديث يبحث عن تعريف جديد للمجرم يتلاءم مع طبيعة الدراسات الإجرامية. ويرى هذا الاتجاه أن هناك أنواع من السلوك تعتبر ذات طبيعة إجرامية في حقيقتها بصرف النظر عما إذا كان المشرع قد خلع عليها هذا الوصف الإجرامي أو لا.
• 
وأهم ما يميز المجرم وفقاً لهذا المفهوم الحديث أنه يتمتع بعقلية لا اجتماعية أي عقلية غير قادرة على التكيف اجتماعياً. ويترتب على ذلك أن الإجرام من الناحـية القانونيـة لا يمثل إلا دليلاً يسـتدل من خلاله على وجود العقلية اللا اجتماعية. ومع ذلك فإن هذا المدلول الحديث للمجرم يصطدم مع مبدأ الشرعية والاحترام الواجب للحريات الفردية، لأنه من الصعب تدخل المشرع في الحالات التي تنذر بالإجرام نتيجة تمتع الشخص بعقلية لا اجتماعية تقربه من احتمال ارتكاب جريمة ما.
• 
والخلاصة أن الأخذ بالمفهوم التقليدي للمجرم يؤدي إلى التضييق من نطاق الأبحاث الإجرامية ويغلق الباب أمام فرص الوقاية من الجريمة قبل وقوعها نظراً لاستبعاد الشخص المتمتع بعقلية لا اجتماعية من مفهوم المجرم.
• 
كما أن الأخذ بالمفهوم الحديث يؤدي إلى التضحية بالحريات الفردية ويوسع بصورة كبيرة من نطاق أبحاث علم الإجرام. وللخروج من هذه الأزمة ينادي جانب من الفقه بضرورة اللجوء إلى حل توفيقي يجمع بين المفهومين معاً، على أن تكون الأولوية لدراسة المجرمين وفقاً للمفهوم التقليدي أو القانوني، مع إمكانية شمول الدراسة لأشخاص لم يعتبروا بعد مجرمين من الناحية القانونية، خاصة فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب في الخفاء أو التي لم يبلغ عنها، مع ملاحظة عدم التوسع في هذا الدراسات احتراماً للحرية الفردية للمواطنين.
• 
ولم تقتصر الصعوبات المتعلقة بتحديد مفهوم المجرم على مدى ملائمة الأخذ بالمفهوم القانوني أو المفهوم الاجتماعي للمجرم، وإنما تثور المشكلة أيضاً فيما يتعلق بنوعية المجرمين الذين يجب أن تشملهم الدراسات الإجرامية.
• 
وتثور هذه المشكلة بسبب ما جرى عليه الفقه من تقسيم للمجرمين إلى أنواع ثلاثة: المجرم العادي، المجرم المجنون والمجرم الشاذ. فالمجرم العادي هو الذي يتمتع بالإدراك والتمييز وحرية الاختيار – أي أنه يتمتع بالأهلية الجنائية ويكون مسئولاً عن أفعاله مسئولية كاملة. والمجرم المجنون هو شخص مصاب بأحد الأمراض العقلية على نحو يعدم لديه الإدراك والتمييز وبالتالي يعدم أهليته الجنائية، ويعتبر الشخص تبعاً لذلك غير مسئول جنائياً عن أفعاله التي يرتكبها تحت تأثير هذا الجنون. أما المجرم الشاذ فهو شخص مصاب بخلل نفسي أو عقلي لا يعدم لديه الإدراك والتمييز بصورة كاملة، ولذلك يتمتع هذا الشخص بأهلية جنائية ناقصة تؤدي إلى تعرضه لنوع من المسئولية الجنائية يتفق مع حالته من حيث درجة التمييز والإدراك وحرية الاختيار.
• 
وتثور المشكلة بصدد بحث ما إذا كان يتعين إخضاع جميع أنواع المجرمين للأبحاث الإجرامية أم الاقتصار علي دراسة نوعين من المجرمين العاديين أو الأسوياء فقط؟
• 
ذهب جانب من الفقه إلي أن أبحاث علم الإجرام ينبغي أن تركز بصفة أساسية علي المجرمين الأسوياء.
• 
فهذا النوع من المجرمين يكون مسئولاً عن أفعاله من الناحية الجنائية وبناء عليه فإن إخضاعه للدراسة سوف يفيد في تحديد العوامل الحقيقية الدافعة إلي الجريمة. أما المجرمين غير الأسوياء فإن إخضاعهم للدراسة لن يقدم شيئاً كبيراً، لأنه غالباً ما يفسر إجرامهم علي ضوء الخلل النفسي أو العقلي الذي أصابهم. ومع ذلك فلم ينكر أنصار هذا الاتجاه أهمية دراسة المجرمين غير الأسوياء في حالات معينة تتعلق باستظهار العلاقة بين نوع الخلل الذي يعانون منه ونوعية الإجرام الناجم عنه. 
• 
ورغم وجاهة هذا الرأي، فإن الاتجاه الغالب في الفقه يري أن دراسات علم الإجرام يجب أن تشمل جميع أنواع المجرمين الأسوياء وغير الأسوياء.
• 
والعلة في شمول الدراسات الإجرامية للمجرمين غير الأسوياء تكمن في أن هذه الدراسة قد تفيد في تحديد الأسباب التي أدت بمريض ما إلي ارتكاب الجريمة رغم أن غيره من المصابين بنفس المرض لم يقدموا علي ارتكابها. وهذا قد يفيد في معرفة العوامل التي ساهمت مع المرض أو الخلل في الدفع إلي ارتكاب الجريمة. ومما لا شك فيه أن هذه المعرفة تفيد في الوقاية من الجريمة وحماية المجتمع من خطورة هؤلاء المجرمين، كما تفيد في منع هؤلاء من العودة إلي ارتكاب الجريمة بعد علاجهم من المرض العقلي أو الخلل النفسي الذي يعانون منه.
 1- فروع علم الاجرام:

• 
يشمل علم الإجرام الحديث مجموعة من العلوم التي يمكن أن تمثل فروعاً لهذا العلم، وهي" علم طبائع المجرم، وعلم النفس الجنائي، وعلم الاجتماع الجنائي. وسوف نبين ماهية كل فرع من هذه الفروع فيما يلي:
أ- علم طبائع المجرم
• 
ويطلق عليه كذلك علم البيولوجيا الجنائية، ويرجع الفضل في نشأته إلى العالم الإيطالي لومبروزو مؤسس المدرسة الوضعية الإيطالية.
• 
ويهتم هذا العلم بدراسة الخصائص والصفات العضوية للمجرم وذلك من ناحية التكوين البدني الخارجي أو من حيث أجهزة الجسم الداخلية. وخلص لومبروزو في أبحاثه إلى أن هناك علاقة ثابتة بين التكوين العضوي للمجرم وبين الجريمة، وأن المجرم يعتبر صورة أو نمطاً للإنسان البدائي. وذهب لومبروزو إلى القول بوجود ما يسمى "المجرم بالميلاد" وهو من تتوافر لديه مجموعة من الخصائص العضوية تميزه عن غير المجرمين.
• 
ورغم ما تعرضت له أفكار لومبروزو من نقد خاصة فيما يتعلق بفكرة الإنسان المجرم والمجرم بالميلاد، إلا أن علم البيولوجيا الجنائية كشف عن حقيقة هامة وهي أن بعض العوامل الدافعة للجريمة ترجع إلى وجود خلل أو شذوذ في التكوين العضوي للمجرم. وحتى مع الاعتراف بأن هذه العوامل لا يمكن الاستناد إليها لإعطاء تفسير عام للظاهرة الإجرامية، إلا أن معرفة الخلل في الجانب العضوي للمجرم تفيد في اختيار أسلوب المعاملة العقابية الملائمة له وبالتالي في مكافحة الظاهرة الإجرامية.
ب- علم النفس الجنائي
• 
يهتم هذا العلم بدراسة الجوانب النفسية للمجرم والتي تدفعه لارتكاب الجريمة، وهي ما تسمى بعوامل التكوين النفسي للمجرم.
• 
ويقوم هذا العلم على دراسة القدرات الذهنية للمجرم ومدى استعداده أو ميله الذهني لارتكاب الجريمة. ويستعين الباحثون في علم النفس الجنائي بأساليب التحليل النفسي التي قال بها فرويد وغيره من علماء النفس والتي تلقي الضوء على عناصر هذا الاستعداد الذهني لارتكاب الجريمة. 
• 
ويرى جانب من الفقه أن علم النفس الجنائي ما هو إلا جزء من علم البيولوجيا الجنائية أو علم طبائع المجرم، باعتبار هذا الأخير يتناول أيضاً بالدراسة التكوين النفسي للمجرم، وأنه من الصعب الفصل بين التكوين العضوي والتكوين النفسي للمجرم، كما أن الصفات الجسمانية للشخص تباشر تأثيراً ملحوظاً على نفسيته وميله إلى الإجرام.
جــ- علم الاجتماع الجنائي
• 
يدرس هذا العلم العوامل الإجرامية ذات الطابع الاجتماعي فهو يدرس الجـريمة باعتبارها ظاهرة اجتماعية ناتجة عن تأثير البيئة الاجتماعية المحيطة بالفرد.
• 
وتنطلق الفكرة الأساسية لهذا العلم من أن أسباب الجريمة لا يمكن أن تنحصر في الخصائص العضوية والنفسية للمجرم، وأن العوامل الاجتماعية تباشر تأثيراً هاماً لتنشيط هذه العوامل الداخلية والتفاعل معها في إنتاج الجريمة.
 2- 
أهمية دراسات علم الإجرامÛ
• 
إن علم الإجرام بما يقوم به من دراسة للعوامل المؤدية إلى ارتكاب الجريمة بطريقة علمية يمثل أهمية كبيرة من نواح متعددة، فهو يفيد كل من المشرع والقاضي وسلطة التنفيذ العقابي على حد سواء.
أ- من الناحية التشريعية
• 
تفيد أبحاث علم الإجرام المشرع فيما يتعلق بالتدخل عن طريق التشريع للمساهمة في مكافحة الظاهرة الإجرامية، ويتم ذلك من خلال ما تقدمه أبحاث علم الإجرام من دراسات حول تصنيف المجرمين إلى طوائف متباينة من خلال دراسة متكاملة لشخصية المجرم تحدد العقوبة المناسبة له والأسلوب الملائم له من ناحية المعاملة العقابية.
• 
وفي ضوء هذه الأبحاث والدراسات يمكن للمشرع أن يتدخل باختيار العقوبات أو التدابير الاجتماعية والاحترازية المناسبة لكل طائفة من المجرمين. ولا شك أن دراسات علم الإجرام هي التي دفعت المشرع إلى أن يفرد للمجرمين الأحداث نظاماً عقابياً خاصاً يتناسب معهم ويختلف عن ذلك المقرر للمجرمين البالغين.
ب- من الناحية القضائية
• 
تفيد الدراسات التي تتم في نطاق علم الإجرام القاضي الجنائي في اختيار العقوبة أو التدبير الملائم لكل متهم وذلك في ضوء استعماله لسلطته التقديرية التي منحها له المشرع. وحتى يتم ذلك بطريقة سليمـة يتعين أن يقدم للقاضي ما يمكنه من التعرف على شخصية المتهم الإجرامية للوقوف على مدى خطورته الإجرامية على المجتمع. ولا شك أن ذلك يساعد في مكافحة الإجرام في المجتمع من خلال تطبيق الحد الأدنى أو الأقصى للعقوبة، أو توقيع تدبير احترازي بدلاً من العقوبة الجنائية أو اللجوء لنظام وقف التنفيذ إذا كانت ظروف المتهم تستوجب ذلك.
جــ- من ناحية التنفيذ العقابي
• 
تتيح الدراسات الحديثة في علم الإجرام للسلطات القائمة على تنفيذ العقوبة اختيار أنسب وسائل المعاملة العقابية للمحكوم عليه، ويتم ذلك من خلال تصنيف المجرمين من حيث السن والجنس والخطورة الإجرامية ومن حيث اختيار نوع العمل داخل المؤسسة العقابية الذي يحقق تأهيل المحكوم عليه حتى يخرج مواطناً قادراً على التكيف مع المجتمع مرة أخرى.
• 
واختيار أسلوب المعاملة العقابية يتم كذلك من خلال الفحص البدني والنفسي والعقلي والاجتماعي للمحكوم عليه، فهذا الفحص يساعد في معرفة العوامل التي أدت إلى ارتكاب الجريمة وبالتالي يفيد ذلك في معالجتها والقضاء عليها.
 3- 
علاقة علم الإجرام بالعلوم الجنائية الأخرىÛ
• 
هناك ارتباط واضح وعلاقة وثيقة بين فروع العلم الجنائي المختلفة، فهي جميعاً تدور حول فكرة الجريمة وتهتم بدراستها إما بمعرفة العوامل التي تؤدي إليها أو لوضع العقوبات المقررة لها أو الإجراءات التي تؤدي إلى تقرير سلطة الدولة في العقاب أو لتنفيذ ما يتم توقيعه على المجرم من عقوبات. وسوف نعرض فيما يلي لأوجه الصلة بين علم الإجرام وبين أهم فروع العلم الجنائي للوقوف على مدى التأثير المتبادل بين تلك العلوم من ناحية وبين علم الإجرام من ناحية أخرى باعتباره محل دراستنا.
• 
وعلى ذلك فسوف نبين علاقة علم الإجرام بكل من علم العقاب وقانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية والسياسة الجنائية.
أ- علم الإجرام وعلم العقاب
• 
سبق أن أوضحنا أن علم الإجرام يهتم بدراسة الظاهرة الإجرامية لمعرفة العوامل المختلفة فردية كانت أو اجتماعية التي تؤدي إلى ارتكاب الجريمة، وذلك للوقوف على الوسائل الملائمة لمكافحتها والحد من تأثيرها.
• 
ويقصـد بعلم العقـاب ذلك العلم الذي يتناول مرحلة رد الفعـل الاجتمـاعي تجاه مرتكـبي الجـريمة أي مرحلـة التنفـيذ التي تحقـق هذه الأغراض.
• 
ورغم استقلال كل من العلمين فيما يتعلق بالموضوع الذي تنصب عليه أبحاث كل منهما، إلا أنهما يتفقان في سعيهما لتحقيق غاية واحدة وهي مكافحة الجريمة.
• 
ووسيلة علم الإجرام في ذلك هو دراسة الظاهرة الإجرامية للتوصل إلى القانون الذي يحكمها وبالتالي السيطرة عليها قبل وقوعها، أما علم العقاب فهو يهتم بالبحث في أفضل الوسائل لمعاملة المجرمين لتحقيق أغراض الجزاء الجنائي في الإصلاح والتأهيل.
• 
وتتجسد العلاقة بين علمي الإجرام والعقاب في أن كل منهما يكمل الآخر ويعتبر وسيلة من وسائله.
• 
فتحقيق فاعلية علم العقاب في اختيار الوسائل الملائمة لتنفيذ العقوبة لا تتم إلا بعد معرفة الأسباب التي رفعت المجرم إلى ارتكاب الجريمة وبعد معرفة سمات شخصية المجرم وهذا هو مجال علم الإجرام. 
• 
ومن ناحية أخرى فإن علم العقاب يمد علم الإجرام بالكثير من النماذج البشـرية لإجـراء الأبحاث التي تفيد في التأكد من صحة افتراضاته.
ب- علم الإجرام وقانون العقوبات
• 
يشمل قانون العقوبات مجموعة القواعد القانونية التي تحدد الجرائم وتلك التي تبين العقوبات والتدابير الأخرى التي توقع على مرتكبي الجرائم.
• 
ورغم الارتباط بين كل من علم الإجرام وقانون العقوبات القائم على وحدة الغاية والهدف الذي يتمثل في مكافحة الجريمة، إلا أن طبيعة كل منهما تختلف عن طبيعة الآخر. فعلم الإجرام علم وصفي بمعنى أنه يصف السلوك الإجرامي ويحاول تفسيره. بينما قانون العقوبات علم قاعدي أو معياري يدرس الجريمة كواقعة قانونية لتحديد نطاقها وأنواعها وتحديد المسئولية الجنائية لمرتكبيها.
• 
ومع ذلك فإن التأثير متبادل بين كل من علم الإجرام وقانون العقوبات. فقانون العقوبات يرسم الإطار الذي تتم فيه الدراسات الإجرامية وذلك فيما يتعلق بالجريمة والمجرم. ومن جهة أخرى يلجأ قانون العقوبات إلى أبحاث علم الإجرام وما توصلت إليه من نتائج للاستفادة منها في تقرير بعض الأنظمة والقواعد المتعلقة بتفريد العقوبة، ونظام وقف التنفيذ ونظرية الظروف المشددة والمخففة وتطبيق أنظمة التدابير الاحترازية.
جــ- علم الإجرام وقانون الإجراءات الجنائية
• 
يشمل قانون الإجراءات الجنائية مجموعة القواعد الإجرائية التي تسلكها الدولة منذ لحظة وقوع الجريمة وحتى لحظة صدور حكم بات، بما يتضمنه ذلك من إجراءات تحرى وتحقيق ومحاكمة وطرق طعن وما يحيط بكل هذه المراحل والإجراءات من ضمانات تكفل حماية الحقوق الشخصية والحريات الفردية للأشخاص محل الملاحقة الجنائية.
• 
وإن كان من الواضح أن مجال قانون الإجراءات الجنائية يختلف عن موضوع علم الإجرام، إلا أن الاتجاهات الحديثة في قانون الإجراءات الجنائية تهتم بمعرفة شخصية الجاني لتحديد ملامحها الإجرامية ومدي خطورتها من أجل مساعدة القاضي في اختيار العقوبة أو التدبير الملائم لشخصية الجاني، ولا شك أن السبيل إلي ذلك هو الاستعانة بالدراسات الإجرامية التي تبحث في الظروف الشخصية والاجتماعية للمجرم.
• 
وعلي سبيل المثال فقد ساهمت الدراسات الإجرامية في تبني بعض الأنظمة القانونية للعديد من النظم الإجرائية الهامة والتي تهدف إلى حسن تطبيق مبدأ التفريد العقابي، ومن ذلك تخصيص قضاء للأحداث والأخذ بنظام قاضي التنفيذ. 
د- علم الإجرام والسياسة الجنائية
• 
يقصد بالسياسة الجنائية مجموعة الوسائل التي يستخدمها المشرع أو التي يجب عليه أن يستخدمها والتي من شأنها أن تؤدي إلي مكافحة الظاهرة الإجرامية في المجتمع.
• 
أي أن السياسة الجنائية تهتم بتحديد الأفعال التي تقضي المصلحة الاجتماعية بالعقاب عليها وتلك التي توصي بإخراجها من دائرة التجريم والعقـاب، وكذلك بتحديد صور الجزاء الجنائي التي تحقق أغراضه بطريقة فعالة.
• 
ورغم اختلاف علم السياسة الجنائية عن علم الإجرام في الموضوع الذي تهتم دراسات كل منهما بمعالجته، إلا أن أبحاث علم الإجرام تعين السياسة الجنائية علي رسم وضبط الإطار العام لسياسة التجريم والعقاب

الخميس، 12 ديسمبر 2013

.معالجة صعوبات المقاولة في القانون المغربي

معالجة صعوبات المقاولة في القانون المغربي


تـمـهـيـد :

إذا كان المبدأ أن المقاولات التجارية و غيرها تستمر في مزاولة نشاطها بشكل عادي، و بشكل يوفر للفاعلين الاقتصاديين الأهداف المنشودة من وراء إنشائها، فإن هذه المقاولات لا تلبث أن تعرف – بحكم طبيعة الحياة التجارية التي تتأثر بكثير من العوامل – مشاكل متنوعة تضرب في الصميم الأهداف المرجوة، مشاكل قانونية و اقتصادية و مالية و اجتماعية تعصف في بعض الأحيان بمستقبل المقاولة و تفضي بها إلى الموت، الأمر الذي ينعكس سلبا على جميع المتعاملين معهـا و على الاقتصاد الوطني برمته، على اعتبار أن هذه المقاولة من قواعد هذا الاقتصاد.
و في ضوء التحديات الاقتصادية التي يعيشهـا المغرب ضمن المجموعة الدولية، و التي كان من بين آثارها صدور تشريعات أساسية في ميادين متعـددة مرتبطة بالحياة الاقتصادية و المالية، و سعيا وراء الحفاظ على استمرارية استغلال المقاولات، و على مناصب الشغل الموجودة بها، بالموازاة مع عملية إبراء ذمتها من الديون المترتبة عليها، أمور فرضت على المشرعالمغربي هجر نظام الإفلاس و التصفية القضائية الذي كان معمولا به في ظل قانون التجارة لسنة 1913 الملغى، و الذي كان يركز على معاقبة التاجر الذي أخل بالتزاماته و إقصائه من الحياة التجارية، عوض البحث عن التدابير الكفيلة بمده بيد المساعدة لاجتياز الوضعية الصعبة التي يمر بها.
و نتيجة الوعي بعدم مواكبة قانون 1913 ككل للتطور الذي ما فتئ يعرفه القطاع التجاري في المغرب، تم التفكير في السنوات الأخيرة في تغـيير هذا القانون و إحلال محله نظاما للإجراءات الجماعية يرتكز في جوهره على مساطر وقائية و علاجية أكثر من ارتكازه على تصفية أموال المدين.
و ليس من قبيل المبالغة إذا قلنا إن أهم المستجدات التي يحملها في طياته القانون رقم 95-15 المتعلق بمدونة التجارة الصادر بتنفيذه الظهير الشريف المؤرخ في فاتح أغسطس 1996، يتمثل أساسا فيما ورد من مقتضيات الكتاب الخامس من هذه المدونة، و الذي يتعلق كما هو معلوم بصعوبات المقاولة و مساطر الوقاية منها و مساطر معالجتها، مساطر و قواعد تستهدف وقاية المقاولة من الصعوبات التي تعترضها أحيانا أثناء سير نشاطها، تفاديا لاستفحالها مؤكدا المبدأ الطبي المعروف ˝الوقاية خير من العلاج˝، و تروم أحيانا أخرى علاج مواطن الداء بإيجاد الوصفات و الأدوية الناجعة و الكفيلة بالحفاظ على المقاولة و على نشاطها و بالتالي استمرار حياتها بشكل يخدم مصالحها و مصالح المحيطين بها.
و يكتسي النظام المذكور أهميته من كون البدء في العمل به قد تلاه بعد فترة تقل عن سنة، تنصيب المحاكم التجارية المحدثة لأول مرة في المغرب بمقتضى القانون رقم 95- 53 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف المؤرخ في 12 فبراير 1997، هذه المحاكم التي تختص وحدها في ظل التشريع المغربي بالنظر في دعاوى صعوبات المقاولة، و التي تتم المراهنة عليها في عملية التنمية الاقتصادية و الاجتماعية للبلاد و ذلك باعتبارها تشكل قضاء متخصصا و سريعا و فعالا في ذات الوقت.
و انطلاقا من المادة 545 من مدونة التجارة التي تنص على أنه: ˝ يتعين على المقاولة أن تقوم بنفسها عن طريق الوقاية الداخلية من الصعوبات بتصحيح ما من شأنه أن يخل باستمرارية استغلالها، و إلا تم ذلك عن طريق الوقاية الخارجية بتدخل من رئيس المحكمة.
تتم معالجة المقاولة عن طريق التسوية القضائية باعتماد مخطط الاستمرارية أو مخطط التفويت.
يمكن أن تؤدي الصعوبات إلى إنهاء استمرارية المقاولة بالتصفية القضائية˝
فالمشرع المغربي بمقتضى هذه المادة يضع ترتيبا للصعوبات التي يمكن أن تعترض المقاولة و الحلول الكفيلة بمعالجتها، و ذلكحسب ثلاث رتب أو درجات، صعوبات تتمثل في وجود وقائع من شأنها أن تخل باستمرارية استغلال المقاولة، و يتم التصدي لها عن طريق الوقاية الداخلية أو الوقاية الخارجية ( أولا)، و صعوبات تتمثل في توقف المقاولة عن أداء ديونها بصورة لا تجعل وضعيتها غير قابلة للإصلاح بالمرة، و تتم معالجتها عن طريق التسوية القضائية التي تباشر باعتماد مخطط الاستمرارية أو مخطط التفويت (ثانيا)، وصعوبات أخرى تتمثل في وصول المقاولة المتوقفة عن الدفع إلى حد التردي تصبح معه وضعيتهامختلة بشكل لا رجعة فيه، و غير قابلة للإصلاح بالمرة، مما من شانه أن يؤدي إلى إنهاء استمراريتها عن طريق إخضاعها للتصفية القضائية (ثالثا).


أولا: الوقائع التي من شانها الإخلال باستمرارية استغلال المقاولة وكيفية التصدي لها :

و المقصود بالوقائع التي من شأنها الإخلال باستمرارية استغلال المقاولة حسب المادة 550 من مدونة التجارة، كافة المشاكل ذات الطابع القانوني أو الاقتصادي أو المالي التي تعاني منها المقاولة قبل أن تصل إلى مرحلة التوقف عن دفع ديونها، و بعبارة أخرى كافة الإخلالات التي يكتشفها مراقب الحسابات بالنسبة للمقاولات التي يوجد بها هذا المراقب، أو التي تظهر من كل عـقد أو وثيقة أو إجراء أو مسطرة.
و تأسيسا على ما ذكر، فالوقائع التي من شانها الإخلال باستمرارية استغلال المقاولة تكون موجودة كلما كانت هناك عوارض تخل بشروط الاستغلال، كالتقلص العادي لنشاط المقاولة أو الارتفاع المهول للتكاليف و التحملات، أو العجز المالي المتكرر في الحسابات الختامية، إلى غير ذلك من الأمور التي يمكن أن تؤثر سلبا على التوازن المالي للمقاولة، ففي كل هذه الحالات و غيرها يمكن أن تكون هناك صعوبات من النوع المذكور، مما يستدعي التدخل لتصحيح الوضع قبل أن يصل الأمر إلى درجة تصبح معها المقاولة في حالة توقف عن الدفع المبرر لفتح مساطر معالجة صعوبات المقاولة.
وبذلك فتذليل صعوبات من هذا النوع، لا يتم عن طريق التسوية القضائية أو التصفية القضائية، و إنما يتم باتباع مساطر الوقاية من الصعوبات طبقا للأحكام المنصوص عليها في القسم الأول من الكتاب الخامس من مدونة التجارة، ذلك انه يفترض في المقاولة و الحالة هذه، أنها لم تصل بعد إلى مرحلة التوقف عن دفع ديونها أو إلى المرحلة التي تصبح خلالها وضعيتها مختلة بشكل لا رجعة فيه.
على أن مساطر الوقاية من الصعوبات المتمثلة في وجود وقائع من شأنها الإخلال باستمرارية استغلال المقاولة تنقسم إلى نوعين : مسطرة الوقاية الداخلية و مسطرة الوقاية الخارجية.

أ - الوقاية الداخلية كمسطرة غير قضائية لمواجهة الوقائع التي من شأنها الإخلال باستمرارية استغلال المقاولة :

فعلى عكس التاجر الشخص الطبيعي الذي لا تطبق بشأنه مسطرة الوقاية الداخلية من الصعوبات، فان هذه المسطرة تطبق بالإضافة إلى الشركات التجارية المنصوص عليها صراحة في المادة 546، على المجموعات ذات النفع الاقتصادي التي يكون لها غرض تجاري، و التي تكتسب بذلك الصفة التجارية طبقا لمقـتضيات المادة 5 مـن القانون 97-13 المتعلق بهذه المجموعات الصادر بتنفيذه الظهير الشريف المؤرخ في 5 فبراير 1997.
و لقد بين المشرع المغربي كيفية وقاية المقاولة نفسها بنفسها من الصعوبات و ذلك بوضعه لمجموعة من الأحكام و القواعد تم النص عليها في المادتين 546 و 547 من مدونة التجارة، و هكذا و طبقا للمادة 546 يتعين على مراقب الحسابات إن وجد أو أي شريك في الشركة عند ملاحظته لوقائع من شأنها الإخلال باستمرارية استغلالها، أن يعمل على إخبار رئيسها بذلك،بواسطة رسالة مضمونة مع الإشعار بالتوصل و ذلك داخل أجل ثمانية أيام من تاريخ اكتشافه لهذه الوقائع، يدعوه فيها إلى تصحيح ذلك الإخلال.
و يتعين على رئيس المقاولة بعد تلقيه هذه الرسالة الاستجابة لمضمونها، و ذلك بالتأكد من حالة و سير المقاولة، فإذا تبين له جدية ما أشارت إليه الرسالة عمد إلى البحث عن وسائل للوقاية بما تتوفر عليه المقاولة ذاتها من إمكانيات أو بمساعدة من الغير.
وفي حالة ما إذا لم يستجب رئيس المقاولة إلى الرسالة الموجهة إليه من طرف مراقب الحسابات، أو عدم توصل هذا الأخير بأي جواب منه داخل أجل 15 يوما من تاريخ توصله بالرسالة، أو إذا لم يصل رئيس المقاولة شخصيا أو بعد تداول مجلس الإدارة أو مجلس المراقبة إلى نتيجة تمكن من ضمان استمرارية استغلال المقاولة، وجب على مراقب الحسابات العمل على توجيه الدعوة لرئيس المقاولة من أجل تداول الجمعية العامة في شان الوقائع التي تم اكتشافها، وهنا يحرص مراقب الحسابات على أن تستمع هذه الجمعية إلى التقرير المعد من طرفه في هذا الشأن.
أما في المرحلة الأخيرة، فيجب بناء على المادة 547 من مدونة التجارة أن يتم إخبار رئيس المحكمة التجارية التابع لها المقر الاجتماعي للشركة أو المجموعة ذات النفع الاقتصادي التي لها غرض تجاري بوضعية المقاولة المعنية، إما من طرف رئيس هذه الأخيرة و إما من طرف مراقب الحسابات، وذلك في حالة عدم تداول الجمعية العامة في موضوع الوقائع التي من شأنها الإخلال باستمرارية استغلال المقاولة، أو في حالة ما إذا لوحظ أن استمرارية الاستغلال لا تزال مهددة بالاختلال رغم القرار الذي اتخذته الجمعية العامة بهذا الخصوص.

ب - الوقاية الخارجية من الصعوبات كمسطرة لمواجهة الوقائع التي من شأنها الإخلال باستمرارية استغلال المقاولة :

خلافا لما رأيناه بخصوص الوقاية الداخلية من الصعوبات الناتجة عن وجود وقائع من شأنها الإخلال باستمرارية استغلال المقاولة، حيث تتم هذه الوقاية التي لا تهم التاجر الشخصي الطبيعي، من داخل المقاولة ذاتها، فان الوقاية الخارجية من الصعوبات المذكورة تهم حتى المقاولات الفردية و تباشر بتدخل من رئيس المحكمة التجارية التابع لها إما المؤسسة الرئيسية للتاجر، و إما المقر الاجتماعي للشركة أو المجموعة ذات النفع الاقتصادي التي يكون لها غرض تجاري.
و هكذا بالإضافة إلى الحالة المنصوص عليها في المادة 547 من مدونة التجارة، حيث يتم إخبار رئيس المحكمة التجارية المختصة محليا، من طرف رئيس المقاولة أو من طرف مراقب الحسابات، بعدم سلوك مسطرة الوقاية الداخلية من الصعوبات أو عدم فعالية هذه المسطرة رغم سلوكها، يقوم رئيس المحكمة المذكورة بناء على أحكام المادة 548 باستدعاء رئيس المقاولة قصد النظر في الإجراءات الكفيلة بتصحيح الوضعية، و ذلك بالنسبة لكل شركة تجارية أو مجموعة ذات نفع اقتصادي لها غرض تجاري أو مقاولة فردية تجارية أو حرفية يلاحظ عليها في كل عقد أو وثيقة أو إجراء أنها تواجه صعوبات من شأنها أن تخل باستمرارية استغلالها.
و تتم الوقاية الخارجية من الصعوبات عبر طريقتين اثنتين: الطريقة الأولى تتمثل في تذليل هذه الصعوبات بفعل تدخل أحد الغيار، في حين تتمثل الطريقة الثانية في التسوية الودية التي يمكن أن تبرم بين رئيس المقاولة و الدائنين تحت رعاية رئيس المحكمة.

تخل أحدد الأغيار كمسطرة للوقاية الخارجية من الصعوبات :
يمكن لرئيس المحكمة على الرغم من أية مقتضيات تشريعية مخالفة، كما تنص على ذلك الفقرة 2 من المادة 548 أن يطلبفي نهاية الاجتماع الذي يعقده مع رئيس المقاولة قصد النظر في الإجراءات الكفيلة بتصحيح الوضعية، الإطلاع على المعلومات التي من شأنها أن تعطيه صورة صحيحة عن الوضعية الاقتصادية و المالية للمقاولة المدينة و ذلك عن طريق مراقب الحسابات أو ممثل العمال أو أي شخص آخر. وعليه فإذا تبين أن الصعوبات التي تعترض المقاولة قابلة للتذليل بفضل تدخل أحد الأغيار يكون بمستطاعه تخفيف الاعتراضات المحتملة للأشخاص الذين اعتادوا التعامل مع المقاولة، جاز لرئيس المحكمة أن يعينه بصفة وكيل خاص و يكلفه بمهمة و يحدد له أجلا معينا لإنجازها و ذلك تطبيقا لمقتضيات المادة 549.

التسوية الودية كصورة للوقاية الخارجية من الصعوبات :
جدير بالذكر أن مسطرة التسوية الودية لا تفتح في مواجهة المقاولة إلا بشروط، من أهمها أن تكون المقاولة تعاني من صعوبات مالية أو قانونية أو اقتصادية تعبر عن وجود وقائع من شأنها الإخلال باستمرارية استغلال هذه المقاولة، فضلا على ألا تكون الصعوبات المذكورة قد أدت بالمقاولة إلى التوقف عن دفع ديونها المستحقة، حيث يتقدم رئيس المقاولة الذي يحق له وحده دون أي شخص آخر مهما كانت صفته بطلب فتح مسطرة التسوية الودية إلى رئيس المحكمة التجارية التابعة لها المؤسسة الرئيسية للتاجر أو المقر الاجتماعي للشركة التجارية أو للمجموعة ذات النفع الاقتصادي التي يكون لها غرض تجاري.
و بمجرد توصل رئيس المحكمة التجارية المختصة بطلب رئيس المقاولة الرامي إلى فتح التسوية الودية، يعمل على استدعاء هذا الأخير عن طريق كتابة الضبط و ذلك قـصد تـلقي شـروحاته حـول طـلبـه هـذا، و بـنـاء عـلى المادة 552 من مدونة التجارة، فعلاوة على السلطات المخولة لرئيس المحكمة بمـقتضى المادة 548 من مدونة التجارة، يمكنه تكليف خبير لإعداد تقرير عن الوضعية الاقتصادية و الاجتماعية و المالية للمقاولة، و الحصول من المؤسسات البنكية أو المالية على الرغم من أية مقتضـيات تـشـريعية مخالفة على كل المعلومات التي من شأنها أن تعطي صورة صحيحة عن الوضعية الاقتصادية و المالية للمقاولة.
و إذا تبين لرئيس المحكمة أن اقـتراحات رئيس المقاولة من شأنها أن تسهل تصحيح وضعية المقاولة، فتح إجراء التسوية الودية و عين مصالحا لمدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر قابلة للتمديد شهرا على الأكثر بطلب من هذا الأخير (المادة 553 من مدونة التجارة)، و يحدد رئيس المحكمة مهمة المصالح Consiliateur التي تتمثل في تسهيل سير المقاولة و العمل على إبرام اتفاق مع الدائنين، و يطلع رئيس المحكمة المصالح على المعلومات المتوفرة لديه و إن اقتضى الحال على نتائج الخبرة المشار إليها في المادة 552.
هذا و إذا رأى المصالح أن الوقف المؤقت للإجراءات من شأنه تسهيل إبرام اتفاق أمكنه أن يعرض الأمر على رئيس المحكمة، و يمكن لهذا الأخير بعد الاستماع لرأي الدائنين الرئيسيين أن يصدر أمرا يحدد مدة الوقف في أجل لا يتعدى مدة قيام المصالح بمهمته.
و يوقف هذا الأمر و يمنع كل دعوى قضائية يقيمها جميع الدائنين ذوي دين سابق للأمر المشار إليه تكون غايتها إما الحكم على المدين بسداد مبلغ مالي و إما الحكم عليه بفسخ عقد بسبب عدم سداد مبلغ مالي، و يوقف الأمر المذكور كذلك و يمنع كل طريقة للتنفيذ يقيمها هؤلاء الدائنون سواء بشأن المنقولات أو العقارات، كما توقف تبعا لذلك الآجال المحددة تحت طائلة البطلان، السداد الكامل أو الجزئي لأي دين سابق لهذا الأمر، أو الأداء للضامنين الذين يوفون بالديون المؤسسة سابقا، وكذا القيام بتصرف خارج عن التسيير العادي للمقاولة أو منح رهن رسمي أو رهن ما، لم يصدر ترخيص بصدده من رئيس المحكمة و لا يطبق هذا المنع على الديون الناجمة عن عقد العمل (المادة 555 من مدونة التجارة).
على أن مسطرة التسوية الودية تنتهي في حالة نجاحها بإبرام اتفاق ودي بين الدائنين أو بين الدائنين الرئيسيين من جهة و بين المدين من جهة أخرى، و ذلك عن طريق عرض المصالح على هؤلاء الدائنين اقتراح أو قبول الآجال الجديدة أو التخفيض من الديون أو الاثنين معا، حيث تقتصر مهمته على التوفيق بين الأطراف و عرض المقترحات المختلفة، و بيان إمكانيات المقاولة المالية و الاقتصادية، و صياغة البنود و المقتضيات المحتملة للاتفاق الودي التي ارتضاها الأطراف.
و عند إبرام اتفاق مع جميع الدائنين، يصادق عليه رئيس المحكمة و يودع لدى كتابة الضبط، أما إذا تم إبرام اتفاق مع الدائنين الرئيسيين فقط، فيمكن لرئيس المحكمة أن يصادق عليه أيضا و أن يمنح للمدين آجال الأداء الواردة في النصوص الجاري بها العمل، فيما يخص بعض الديون التي لم يشملها الاتفاق المذكور (المادة 556 من مدونة التجارة).
و يثبت الاتفاق الذي يتم بين رئيس المقاولة و الدائنين في محرر و يوقعه الأطراف و المصالح، و تودع الوثيقة أو الوثائق التي تتضمن هذا الاتفاق لدى كتابة الضبط بالمحكمة التجارية التي فتحت إجراء التسوية الودية (المادة 557 من مدونة التجارة).
و ينبغي التذكير أن الاتفاق المذكور يوقف أثناء مدة تنفيذ كل دعوى قضائية و كل إجراء فردي سواء كانت تخص منقولات المدين أو عقاراته بهدف الحصول على سداد الديون موضوع الاتفاق.
و في حالة عدم تنفيذ الالتزامات الناجمة عن الاتفاق، تقضي المحكمة بفسخ هذا الأخير و بسقوط كل آجال الأداء الممنوحة.
و باستثناء السلطة القضائية التي يمكن أن تبلغ بالاتفاق و بتقرير الخبرة، لا تطلع على الاتفاق سوى الأطراف الموقعة و لا يطلع على تقرير الخبرة سوى رئيس المقاولة.

ثانيا : صعوبات تتمثل في توقف المقاولة عن دفع ديونها و الحل الكفيل بمعالجتها :

تعبر الصعوبات التي تتجسد في عدم قيام المقاولة بدفع ما يستحق عليها من ديون، عن وجود هذه المقاولة في مرحلة وسط بين تعرضها للصعوبات المتمثلة في وجود وقائع من شأنها الإخلال باستمرارية استغلالها و بين تعرضها لصعوبات تتمثل في اختلال وضعية المقاولة بشكل لا رجعة فيه، و بذلك فالصعوبات التي تتمثل في عدم دفع الديون المستحقة تعتبر من جهة نتاجا لتفاقم الوضع بالنسبة للمقاولة التي لم تخضع بحسب الأحوال إما للوقاية الداخلية أو الوقاية الخارجية من الصعوبات المتمثلة في وجود وقائع من شأنها الإخلال باستمرارية الاستغلال، كما أنها تمهد من جهة أخرى الطريق لوصول المقاولة المعنية بالأمر إلى وضعية مختلة بشكل لا رجعة فيه إذا لم يتم إخضاعها لمسطرة معالجة الصعوبات.
و على خلاف ما كان عليه الأمر في العقود الأولى من القرن 20، لم يعد المدين المتوقف عن دفع ديونه يخضع في الوقت الراهن لأي أثر من آثار المساطر الجماعية إلا بعد أن يصدر ضده حكم يقضي بفتح هذه المساطر في مواجهته و بعبارة أخرى فنظرية الإفلاس الفعلي أو الواقعي La Faillitte virtuelle التي ظل جانب من الفقه و القضاء في فرنسا ينادي بها و يطبقها خلال النصف الأول من القرن المذكور لم يبق لها أي مجال للتطبيق الآن بعد أن أصبح من الضروري، لكي يتم إخضاع المدين المتوقف عن الدفع لنظام الإجراءات الجماعية، أن يكون هناك حكم قضائي صادر ضده بهذا الخصوص، فقد كانت نظرية الإفلاس الفعلي تستند إلى مجرد التوقف عن الدفع باعتباره حالة تتعلق بالواقع، مما يسمح للدائن و لو في غياب حكم يقضي على المدين بالإفلاس، بالمطالبة بإخضاع هذا المدين لآثار الإفلاس، وذلك كلما كان هناك توقف عن الدفع يمكن معاينته بالطرق و الكيفيات التي تتم بها معاينة كل المسالك التي ترتبط بالواقع، أي بالمسائل التي تستند إلى وقائع مادية وليس إلى وقائع قانونية.
و لقد وضع المشرع المغربي قواعد خاصة بشأن كيفيات طلب فتح مسطرة معالجة صعوبات المقاولة و حدد الأشخاص الذين يحق لهم تقديم هذا الطلب إلى المحكمة التجارية المختصة فخلافا لما كان عليه الأمر في ظل القانون التجاري المغربي لسنة 1913 الملغى، وسع هذا المشرع بموجب مدونة التجارة لسنة 1996 دائرة هؤلاء الأشخاص.
و هكذا فعلاوة على رئيس المقاولة الذي يكون ملزما بالتصريح بتوقفه عن أداء ديونه، و الدائنين الذين يعتبرون من أوائل ذوي المصالح المرتبطة بالمقاولة المتوقفة عن الدفع، يمكن للمحكمة التجارية المختصة محليا أن تفتح مساطر معالجة صعوبات المقاولة و ذلك إما من تلقاء نفسها و إما بناء على طلب النيابة العامة.
و إذا كانت هناك مصلحتان تتعارضان بخصوص طريقة بث المحكمة في الطلب الرامي إلى فتح مساطر معالجة صعوبات المقاولة، فالمصلحة العامة تقتضي أن يتم البث في هذا الطلب مباشرة بعد توصل المحكمة التجارية المختصة به و ذلك حتى لا تتدهور الوضعية المالية و الاقتصادية للمقاولة بفعل مرور الوقت و تضيع بالتالي الفرصة في تسويتها، و بالمقابل تفرض المصلحة الخاصة للمقاولة المدعى عليها أن لا يتم التسرع في فتح مسطرة المعالجة في مواجهتها من دون الاستماع إلى رئيسها و معرفة أوضاعها و أسباب توقفها عن الدفع.
و تأسيسا على ذلك، فمن أجل التوفيق بين المصلحتين المذكورتين، فرض المشرع على المحكمة التجارية المرفوع إليها طلب فتح مسطرة معالجة صعوبات المقاولة ضرورة سلوك بعض الإجراءات قبل البث في هذا الطلب، ذلك أن هناك إجراء إجباريا يتمثل في ضرورة الاستماع إلى أقوال رئيس المقاولة المدعى عليها و إجراء اختياريا يتمثل من جهة في إمكانية الاستماع إلى أي شخص آخر ترى المحكمة التي وضعت يدها على المسطرة أن أقواله مفيدة، و من جهة أخرى في إمكانية أخذ رأي ذوي الخبرة، كما أنه يتعين على المحكمة حسب الفقرة الأخيرة من المادة 567 من مدونة التجارة أن تبث بعد خمسة عشر يوما على الأكثر من رفع الدعوى إليها.
و مما ينبغي التأكيد عليه قبل كل شيء أن المحكمة التجارية المرفوع إليها الطلب الرامي إلى فتح مسطرة معالجة صعوبات المقاولة لا تكون ملزمة بضرورة الحكم بالتسوية القضائية Redressement Judiciaire في بداية الأمر، ثم بعد ذلك تحويل هذه التسوية إلى تصفية قضائية كلما تبين لها ذلك، بل يجوز للمحكمة و يتعين عليها أن تحكم مباشرة بالتصفية القضائية إذا كانت وضعية المقاولة المدعى عليها مختلة بشكل لا رجعة فيه، و ذلك تطبيقا لمقتضيات المادة 568 من مدونة التجارة التي تنص في فقرتها الأولى على أنه "يقضى بالتسوية القضائية إذا تبين أن وضعية المقاولة ليست مختلة بشكل لا رجعة فيه و إلا فيقضى بالتصفية القضائية".
و بذلك فالمحكمة التجارية المقدم إليها طلب فتح المسطرة ضد المدين المتوقف عن الدفع، لا تتقيد فيما يخص البث في هذا الطلب بما يطلبه الأطراف، كما لا تتقيد كذلك بضرورة اتباع الترتيب الذي يتمثل في سلوك مسطرة الوقاية ثم مسطرة المعالجة ثم في الأخير مسطرة التصفية القضائية.
على أنه سواء حكمت المحكمة التجارية المختصة بالتصفية القضائية مباشرة أو حكمت بفتح مسطرة المعالجة التي تتم عن طريق التسوية القضائية، فإن الحكم الصادر بهذا الخصوص يحدد تاريخ التوقف عن الدفع و يعين أجهزة المسطرة.
و بخصوص تحديد تاريخ التوقف عن الدفع، لتحديد ما يسمى بفترة الريبة و التي تبتدىء من تاريخ التوقف عن الدفع و لغاية حكم فتح المسطرة، تضاف إليها مدة سابقة عن التوقف بالنسبة لبعض العقود، و من أجل ذلك يسر المشرع إسقاط بعض التصرفات التي يجريها المدين في الفترة الواقعة بين توقفه عن الدفع و صدور حكم فتح مسطرة المعالجة حماية للدائنين و تحقيق المساواة بينهم، و وضع نصب عينه مصلحة الدائنين و مصلحة المدين على حد سواء، و فرق بين التصرفات التي لا تكشف بذاتها عن موجب للريبة و لا تشكل ضررا على الدائنين و التصرفات التي تنم عن ذلك و ترك أمر أبطالها لسلطة المحكمة، حيث يعين حكم فتح مسطرة المعالجة تاريخ التوقف عن الدفع الذي يجب أن لا يتجاوز في جميع الأحوال ثمانية عشر شهرا قبل فتح مسطرة المعالجة و ذلك حسب المادة 680 من مدونة التجارة.
أما بخصوص أجهزة المسطرة، فعندما تقرر المحكمة التجارية المختصة فتح مسطرة معالجة صعوبات المقاولة أو مسطرة التصفية القضائية، سواء من تلقاء نفسها أو بناء على طلب رئيس المقاولة أو أحد الدائنين أو النيابة العامة، فإنها تعمل بموجب حكمها الصادر بهذا الخصوص على تعيين الأجهزة التي ستقوم تحت إشرافها بتسيير المسطرة المفتوحة ضد المقاولة المدينة، حيث يتعلق الأمر بتعيين القاضي المنتدب و السنديك.
يقوم القاضي المنتدب في إطار المهمة المسندة إليه بموجب الحكم القاضي بفتح المسطرة ضد المقاولة المتوقفة عن الدفع بعدة وظائف لاسيما و أن المادة 638 من مدونة التجارة، تجعل منه الساهر على السير السريع للمسطرة و على حماية المصالح المتواجدة. و هكذا فإذا كان القاضي المنتدب يعد بمثابة الوسيط بين المحكمة التجارية مصدرة الحكم القاضي بفتح المسطرة و بين باقي الأطراف الأخرى الفاعلة في هذه المسطرة كالسنديك و المراقبين فإن ذلك لا يعني أن دوره ينحصر فقط في المراقبة بل إنه يتخذ العديد من القرارات الهامة و ذلك بموجب أوامر يصدرها تطبيقا للمادة 639 من مدونة التجارة.
و على العموم فإن أهم الوظائف التي يقوم بها القاضي المنتدب تتمثل في المساهمة في إعداد الحل الكفيل بتسوية وضعية المقاولة و ذلك عن طريق مراقبة أعمال السنديك في هذا الإطار، كما تتمثل أيضا هذه الوظائف أو المهام في تعيين المراقبين من بين الدائنين الذين يتقدمون إليه بطلب من أجل ترشيح أنفسهم لمهمة مراقب.
و تطبيقا للمادة 640 يتم تكليف السنديك – مهام السنديك تزاول أصلا من طرف أحد كتاب الضبط بالمحكمة التجارية مصدرة الحكم القاضي بفتح مسطرة التسوية و التصفية القضائية، إلا أنه يمكن لهذه المحكمة عند الاقتضاء أن تسند هذه المهام إلى الغير – حيث يسهر السنديك على إعداد و تنفيذ الحل المختار في المسطرة، كما يقوم السنديك تحت مراقبة القاضي المنتدب بتحقيق الديون المصرح بها إليه وفق الإجراءات المنصوص عليها في المادة 686 و ما بعدها فضلا عن وضع الأختام على أموال المقاولة بأمر من القاضي المنتدب و كذا إبرام و تنفيذ العقود الجارية.
هذا، و مباشرة بعد صدور الحكم المذكور تنتهي فترة الملاحظة أو فترة إعداد الحل و تبتدئ بالتالي فترة أخرى يتم خلالها تنفيذ الحل المختار من طرف المحكمة المختصة، حيث يتحدد تبعا لذلك مصير الأطراف التي لها علاقة بالمسطرة المفتوحة و الحالة هذه، على أن أهم آثار هذه المسطرة خلال فترة تنفيذ الحل المناسب للمقاولة تتجلى فيما تؤول إليه وضعية المقاولة ذاتها أثناء هذه الفترة و وضعية دائنيها و على الخصوص أولائك الناشئة ديونهم قبل صدور الحكم القاضي بفتح المسطرة.
على أن الآثار المذكورة تختلف باختلاف ما إذا كان الحل المختار بهذا الخصوص من طرف المحكمة التجارية المفتوحة أمامها مسطرة المعالجة يتمثل في حصر مخطط لاستمرارية هذه المقاولة (أ) أم في حصر مخطط لتفويتها لأحد الأغيار (ب) أم أنه يتمثل في قبول اقتراح النطق بتصفيتها القضائية لكون وضعيتها مختلة بشكل لا رجعة فيه.

أ – تنفيذ الحل المتمثل في مخطط استمرارية المقاولة :

تعتبر حالة تسوية المقاولة عن طريق اعتماد مخطط استمراريتها أنسب حل للمقاولات المفتوحة ضدها مساطر معالجة الصعوبات، و ذلك على خلاف حالة التسوية عن طريق تفويت المقاولة لأحد الأغيار أو حالة النطق بالتصفية القضائية بسبب اختلال وضعية المقاولة بشكل لا رجعة فيه.
حيث يمكن للمحكمة التجارية المفتوحة أمامها مسطرة المعالجة أن تتبنى بمقتضى حكمها الصادر بشأن تحديد مصير المقاولة الخاضعة لهذه المسطرة مخطط الاستمرارية المقترح من طرف السنديك كحل ملائم لتسوية وضعية المقاولة، و تقرر استمرارية قيام المقاولة بنشاطها إذا كانت هناك إمكانات جدية لتسوية وضعيتها و لسداد خصومها، كما يمكن لذات المحكمة أن تقضي بحصر مخطط الاستمرارية و لو لم تنته بعد عملية تحقيق الديون التي تتم وفقا للمقتضيات المنصوص عليها في المواد من 688 إلى 698 من مدونة التجارة.
و تطبيقا لمقتضيات الفقرة الثانية من المادة 592 من مدونة التجارة فإن مخطط الاستمرارية الذي تحصره المحكمة التجارية المفتوحة أمامها مسطرة المعالجة يشير إن اقتضى الحال إلى التغييرات الواجب إدخالها على تسيير المقاولة وفقا لأحكام المادة 595 من هذه المدونة و بمقتضى كيفيات تصفيات الخصوم المحددة في المواد من 598 إلى 602 من مدونة التجارة. و قد ترفق الاستمرارية، عند الاقتضاء، بتوقيف أو إضافة أو تفويت بعض فروع النشاط الذي كانت تزاوله المقاولة، على أن التفويتات التي تتم في هذه الحالة تخضع للمقتضيات المتعلقة بالتصفية القضائية، أما إذا كانت القرارات المصاحبة لاستمرارية المقاولة الخاضعة لمسطرة المعالجة ستؤدي إلى فسخ عقود العمل، و جب تطبيق القواعد المنصوص عليها في مدونة الشغل و ذلك وفقا لما تنص عليه بهذا الخصوص الفقرة الأخيرة من المادة 592 من مدونة التجارة.
و بخصوص وضعية المقاولة خلال تنفيذ مخطط استمراريتها، فإن المخطط يفرض عليها أن تنفذ التزاماتها وفق الكيفيات و الشروط المحددة فيه، و إلا تم فسخه من طرف المحكمة التجارية المختصة، إذ يمكن للمحكمة التي فتحت مسطرة التسوية القضائية أن تقرر عدم إمكانية تفويت الأموال التي تعتبرها ضرورية لاستمرار هذه المقاولة دون ترخيص منها، و ذلك لمدة تحددها هذه المحكمة طبقا لمقتضيات المادة 597 من مدونة التجارة، و يتم تقييد عدم إمكانية تفويت الأموال المذكورة في السجل التجاري، مما يترتب عليه حسب المادة 594 من مدونة التجارة أن يتم الحكم ببطلان كل عمل أو تصرف أو عقد أبرم خرقا لقاعدة عدم قابلية التفويت هذه، و يحكم بالبطلان في هذه الحالة بناء على طلب كل ذي مصلحة يقدمه داخل أجل ثلاث سنوات من تاريخ إبرام العقد أو نشره.
كما يمكن حسب المادة 595 من مدونة التجارة، أن يتضمن مخطط استمرارية المقاولة الخاضعة لمسطرة المعالجة التغييرات التي يتعين إدخالها على النظام الأساسي للشركة أو المجموعة ذات النفع الاقتصادي التي يكون لها غرض تجاري، و يتم ذلك كلما كانت هذه التغييرات ضرورية لاستمرارية المقاولة المعنية بالأمر، و يقوم السنديك في هذه الحالة باستدعاء الجمعية المختصة، وفق الشكليات المنصوص عليها في النظام الأساسي، لأجل إجراء التغييرات التي يتضمنها مخطط الاستمرارية.
و في حالة ما إذا لم تنفذ المقاولة التي يهمها الأمر التزاماتها المحددة في مخطط الاستمرارية يمكن للمحكمة التجارية المختصة أن تقضي تلقائيا أو بطلب من أحد الدائنين، و بعد الاستماع لأقوال السنديك، بفسخ هذا المخطط و بوضع المقاولة في حالة تصفية قضائية كما تنص على ذلك الفقرة الأولى من المادة 602 من مدونة التجارة، و يترتب على ذلك أن يقوم الدائنون الخاضعون لمخطط الاستمرارية بالتصريح إلى السنديك بمجموع ديونهم و ضماناتهم مخصومة منها المبالغ التي تم استيفاؤها قبل فسخ هذا المخطط، كما يقوم الدائنون الذين نشأت حقوقهم بعد الحكم القاضي بحصر مخطط الاستمرارية بالتصريح بدورهم إلى السنديك بما لهم من ديون، لأنها تعتبر ناشئة قبل فسخ هذا المخطط و إعلان التصفية القضائية، مما يجعلها خاضعة للمسطرة الجماعية لاسيما و أن حق الأسبقية المنصوص عليه في المادة 575 من مدونة التجارة لا يطبق من حيث المبدأ إلا في حالة التسوية القضائية.
و على العكس مما ذكر، فإذا قامت المقاولة الخاضعة لمسطرة التسوية القضائية بتنفيذ كافة التزاماتها وفق الشروط و الكيفيات المحددة في مخطط الاستمرارية، فلا يبقى للمحكمة التجارية المفتوحة أمامها المسطرة إلا النطق بإقفال هذه الأخيرة، مع ما يترتب على هذا الإقفال من آثار.

ب – تنفيذ الحل المتمثل في تفويت المقاولة للغير :

و يتم تفويت المقاولة في إطار التسوية القضائية بناء على العروض المقدمة في هذا الإطار إلى السنديك من طرف الأغيار، بحيث تختار المحكمة العرض الذي يسمح في أحسن الظروف بأداء مستحقات الدائنين و بضمان أطول مدة لاستقرار التشغيل، و يقوم السنديك بإبرام كل العقود و التصرفات الضرورية لإنجاز تفويت المقاولة.
و بناء على المادة 611 من مدونة التجارة، فإن المحكمة التجارية المفتوحة أمامها مسطرة المعالجة يمكنها أن تضع قيودا على حرية المفوت إليه فيما يخص تصرفه في الأموال المفوتة بموجب مخطط تفويت المقاولة الخاضعة لهذه المسطرة، ذلك أن هذه المحكمة يحق لها أن تجعل هذا المخطط مقرونا بشرط يقضي بجعل كل الأموال المفوتة أو بعضا منها غير قابلة للتفويت لمدة تحددها في حكمها القاضي بحصر مخطط التفويت.
و عليه فإن العقد الذي يمكن أن يقوم به المفوت إليه و الذي يكون مفاده تفويت الأموال المادية أو المعنوية المفوتة إليه بمقتضى مخطط التفويت أو بتخصيص هذه الأموال كضمانة أو بإكرائها من أجل التسيير، يكون قابلا للحكم ببطلانه بناء على طلب كل ذي مصلحة يقدمه داخل أجل ثلاث سنوات ابتداء من إبرام هذا العقد أو نشره كما تقضي بذلك المادة 621 من مدونة التجارة.
و يتعين على المفوت إليه احترام كيفية و آجال أداء ثمن التفويت كيفما تم الاتفاق عليه في المخطط، و يمكن للمحكمة في حالة عدم أداء ثمن التفويت أن تعين سواء تلقائيا أو بطلب من السنديك أو من كل ذي مصلحة متصرفا خاصا يتولى مهمة الإشراف على تسيير أموال المقاولة المفوتة إليه. و تقضي المحكمة تبعا لذلك بفسخ المخطط بعد الاستماع إلى كل من المفوت إليه بعد استدعائه قانونيا عن طريق كتابة الضبط و إلى تقرير السنديك بهذا الخصوص و كل من له مصلحة في ذلك، و تبث المحكمة في غرفة المشورة، و بعد النطق بحكم فسخ المخطط يتم الإعلان مباشرة عن التصفية القضائية للمقاولة حيث تباع أموالها وفقا للقواعد المنصوص عليها في باب التصفية القضائية حيث تخصص عائداتها لدفع مستحقات الدائنين المقبولين،و يعمل السنديك على توزيع ثمن التفويت بين الدائنين حسب مرتبتهم بحيث يقدم الدائنون الذين نشأت ديونهم بعد فتح حكم مسطرة التسوية على كل الديون الأخرى و لو كانت مقرونة بامتيازات أو بضمانات و ذلك من أجل تحقيق هدف التفويت الذي هو إبراء ذمة المقاولة من الخصوم.

ثالثا : الصعوبات المتمثلة في اختلال وضعية المقاولة بشكل لا رجعة فيه :

إن اختلال وضعية المقاولة بشكل لا رجعة فيه، أو ما يعبر عنه في القانون الفرنسي Situation irrémédiablement compromise، يفيد أن هذه الوضعية لم تعد قابلة للإصلاح بالمرة مهما تكن الوسائل التدخلية الممكن اعتمادها بهذا الخصوص و بذلك فإن الصعوبات التي تتمثل في وصول المقاولة إلى وضعية مختلفة بشكل لا رجعة فيه، تعتبر آخر مرحلة من مراحل تردي الوضع المالي و الاقتصادي و الاجتماعي لهذه المقاولة، الأمر الذي لا يمكن أن ينفع فيه وقاية أو علاج.
و توجد العديد من المؤشرات التي يمكن أن تفيد حول ما إذا كانت الصعوبات التي تعترض المقاولة تجسد أم لا، اختلال وضعية هذه المقاولة بشكل لا رجعة فيه، و يعد عدم أداء الديون المستحقة أولا مؤشرا من هذه المؤشرات، ذلك أن الصعوبات المتمثلة في اختلال وضعية المقاولة بشكل لا رجعة فيه ليست سوى امتدادا و نتاجا لعدم المبادرة إلى التصدي في الوقت المناسب لوسائل المعالجة السالفة لتلك الصعوبات المتمثلة في مجرد عدم أداء ما يستحق على المقاولة من ديون.
على أنه خلافا لمسألة تقدير ما إذا كانت الصعوبات التي تعترض المقاولة تمثل عجزها عن أداء ديونها المستحقة أم لا تمثل ذلك، و التي ليست بالأمر الهين فإن مسألة تقدير ما إذا كانت هذه الصعوبات تمثل اختلال وضعية المقاولة بشكل لا رجعة فيه، أم لا، غالبا ما تكون متيسرة و سهلة خاصة في بعض الحالات التي تتميز بانقطاع المقاولة المعنية بالأمر عن مزاولة نشاطها و بتسريح عمالها و مستخدميها و بتراكم ديون كثيرة عليها.
و تطبيقا لما ذكر، يلاحظ من خلال بعض الأحكام الصادرة بالمغرب أن القضاء التجاري المغربي لا يتردد كلما كان هناك تراكم للديون غير المؤداة مشفوع بالانقطاع عن مزاولة النشاط التجاري للمقاولة، في تصنيف الصعوبات التي تعترض هذه المقاولة في خانة تلك التي تمثل اختلال وضعية المقاولة بشكل لا رجعة فيه، ففي حكمها الصادر مثلا بتاريخ 27 يناير 1999 عللت المحكمة التجارية بالرباط حكمها في الملف عدد 4/98/798 "منشور بمجلة الإشعاع العدد 18 يناير 1999 ص 252 بأنه : ... و حيث استدعت المحكمة طبقا للمادة 567 من مدونة التجارة، رئيس المقاولة للاستماع إليه و ذلك على العنوان المضمن بشهادة السجل التجاري للمدعى عليها، فرجعت شهادة تسليمه بملاحظة أنه انتقل من العنوان حسب تصريح من تقيم به، مما يفيد اعتزال المدعى عليها عن ممارسة التجارة، علما بأنه و طبقا للمادة 564 من مدونة التجارة يمكن فتح المسطرة ضد كل تاجر أو حرفي وضع حدا لنشاطه داخل سنة من اعتزاله إذا كان التوقف عن الدفع سابقا لهذا الاعتزال، و حيث أن مناط فتح مسطرة التصفية القضائية هو توافر شرط التوقف عن الدفع بشكل ينبني عن مركز مالي مضطرب و ضائقة مستحكمة يتزعزع معها ائتمان التاجر و تتعرض بها حقوق دائنيه لخطر محقق أو كبير الاحتمال ...".
و عليه إذا ثبت أن الصعوبات التي تعاني منها المقاولة تعبر عن اختلال وضعية هذه الأخيرة بشكل لا رجعة فيه، فلا تكون هناك أية فائدة من مواجهة صعوبات من هذا القبيل عن طريق سلوك مساطر الوقاية أو مساطر المعالجة، ذلك أنه لا يوجد و الحالة هذه أي بصيص من الأمل في استمرارية استغلال المقاولة المعنية بالأمر أو في الحفاظ على مناصب الشغل الموجودة بها ما دام أن وضعيتها أصبحت مختلة لدرجة أنها لم تعد تقبل الإصلاح بالمرة، فكل ما هنالك أنه يتعين إيجاد الحل العادل لتمكين الدائنين من الحصول على نسبة معينة من حقوقهم، مما يقتضي وضع المقاولة في حالة تصفية قضائية لبيع أصولها و استعمال ناتج هذا البيع في تسديد الخصوم وفق قواعد التوزيع المقررة بالقانون للدائنين بحسب مراكزهم القانونية حيث يؤدي الحكم القاضي بالتصفية القضائية إلى تخلي المدين بقوة القانون عن تسيير أمواله و التصرف فيها، و حتى التي امتلكها بأي وجه من الوجوه، ما دامت التصفية القضائية لم تقفل بعد، و يقوم السنديك بممارسة حقوق المدين و إقامة الدعاوى بشأن ذمته المالية طيلة فترة التصفية القضائية، غير أنه يمكن للمدين أن يمارس دعاواه الشخصية و أن ينتصب طرفا مدنيا بهدف إثبات إدانة مقترف جناية أو جنحة قد يكون ضحية إحداهما، غير أنه إذا منح تعويضات، فإنها تستخلص لفائدة المسطرة المفتوحة (المادة 619 من مدونة التجارة). هذا و إذا كان الأصل أن فتح مسطرة التصفية القضائية ضد المقاولة التي أصبحت وضعيتها مختلة بشكل لا رجعة فيه يترتب عليه توقف هذه المقاولة عن نشاطها، فإنه يمكن استثناء من هذا الأصل أن يستمر نشاط المقاولة لمدة معينة إذا اقتضت المصلحة العامة أو مصلحة الدائنين ذلك، ففي هذه الحالة، يجوز للمحكمة التجارية التي فتحت مسطرة التصفية القضائية أن تأذن باستمرار نشاط المقاولة المعنية بالأمر لمدة محددة، إذ يتم ذلك إما تلقائيا من المحكمة المذكورة و إما بناء على طلب السنديك أو وكيل الملك.
و بخصوص إجراءات التصفية القضائية فإنها تقوم على عنصرين أساسيين هما بيع أصول المقاولة و تصفية الخصوم، حيث يتم بيع العقار وفق الطرق الواردة في باب الحجز العقاري، غير أن الثمن الافتتاحي للمزايدة و كذا الشروط الأساسية للبيع و تحديد شكليات السعر يحدد من طرف القاضي المنتدب و ذلك بعد تلقي ملاحظات المراقبين و الاستماع لرئيس المقاولة أو استدعائهما بصفة قانونية، على أن الوفاء بمستحقات دائني المقاولة يقتضي الأخذ بعين الاعتبار خمسة عناصر أساسية :
- انتهاء عمليات تحقيق الديون و تحديد قائمة بشأن المقبولة منها بشكل نهائي.
- مراعاة الترتيب الذي حدده المشرع بشأن الأسبقية في الوفاء بالديون.
- مراعاة النزاعات المعروضة أمام أنظار المحكمة بخصوص الديون، خاصة حقوق العمال و المسيرين.
- خصم المبالغ التي يتم سدادها في إطار الأداء المسبق المنصوص عليه في الفصل 629 من مدونة التجارة، حيث يمكن للقاضي المنتدب إما تلقائيا و إما بطلب من السنديك أو أحد الدائنين أن يأمر بأداء مسبق لقسط من الدين متى كان مقبولا.
- إن جميع الديون تصبح حالة مهما كانت الآجال التي علقت عليها.
و هكذا فإن الدائنين أصحاب الرهون و الامتيازات الحاصلين على رتبة مناسبة لا يتقاضون مبلغ ترتيبهم الرهني في التوزيع، إلا بعد خصم المبالغ التي سبق لهم أن تقاضوها، و لا توزع مبالغ الأصول على الدائنين كيفما كانت طبيعة الدين أو مرتبته إلا بعد خصم مصاريف و نفقات التصفية القضائية و الإعانات المقدمة لرئيس المقاولة أو مسيريها أو إلى عائلاتهم و المبالغ التي تقاضاها الدائنون أصحاب الامتيازات بعد إذن القاضي المنتدب، كما يتم وضع جزء من مبلغ الأصول كاحتياطي يكون موازيا للديون التي لم يتم البث نهائيا بشأن قبولها و لا سيما أجور المسيرين.
و يتولى السنديك إعداد تقرير بجميع أعمال التصفية الضرورية و تحديد أموال المقاولة المتبقية بعد سداد ديونها، و تقديم الحساب الختامي للقاضي المنتدب، و هكذا فإن السنديك يتحمل بكل الالتزامات التي يتحمل بها الوكيل بأجره بالنسبة إلى تقديم الحساب و إلى رد ما تسلمه، بحيث يجب عليه عند انتهاء التصفية بالإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه إجراء إحصاء و إقامة جرد لميزانية تتضمن أصول و خصوم المقاولة، ملخصا بذلك كل العمليات التي قام بها و محددا المركز النهائي للمقاولة،كما يعمل السنديك على إيداع دفاتر المقاولة و مستنداتها و وثائقها لدى كتابة ضبط المحكمة المختصة حتى يتأتى لذوي المصلحة و ورثتهم و خلفائهم الإطلاع عليها أو يأخذوا منها نسخا و لو بواسطة موثقين، و قد نصت المادة 635 من مدونة التجارة على أنه يمكن للمحكمة أن تقضي في أي وقت و لو تلقائيا بقفل التصفية القضائية بعد استدعاء رئيس المقاولة و بناء على تقرير القاضي المنتدب و ذلك في الأحوال الآتية :
- إذا لم يعد ثمة خصوم واجبة الأداء أو توفر السنديك على المبالغ الكافية لتغطية ديون الدائنين.
إذا استحال الاستمرار في القيام بعمليات التصفية القضائية لعدم كفاية الأصول.





* قـائـمـة بـأهـم الـمـراجـع :
·        مدونة التجارة – القانون رقم 95 – 15.

·        د. امحمد لفروجي : صعوبات المقاولة و المساطر القضائية الكفيلة بمعالجتها – سلسلة الدراسات القانونية – الطبعة الأولى – فبراير 2000.

·        ذ. عزيز جبروني : التسوية و التصفية القضائية للمقاولة – دراسة عملية معززة باجتهادات قضائية – الطبعة الأولى – 2001.

 
Design by | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Blogger Templates | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة